فصل: (سورة يوسف: آية 54)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَنَحْفَظُ أَخَانَا} بنيامين: {وَنَزْدَادُ} على أحمالنا: {كَيْلَ بَعِيرٍ} لنا من أجله: {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ}: لا مؤونة فيه ولا مشقّة، وقال مجاهد: كيل بعير يعني: حمل حمار، قال: وهي لغة يُقال للحمار بعير،: {قَالَ} لهم يعقوب: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ} تعطوني: {مَوْثِقًا مِّنَ الله} يعني تحلفوا لي بحقّ محمّد خاتم النبيين وسيد المُرسلين أن لا تغدروا بأخيكم: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} وإنّما دخلت فيه اللام لأنّ معنى الكلام اليمين: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} إلاّ أن تهلكوا جميعًا، قاله مجاهد، وقال قتادة: إلاّ أن يُغلبوا حتى لا يطيقوا ذلك.
{فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} أعطوه عهودهم، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس: حلفوا له بحقّ محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلته من ربّه: {قَالَ} يعقوب: {الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي شاهد وحافظ بالوفاء، وقال القتيبي: كفيل، وقال كعب: لمّا قال يعقوب: فالله خيرٌ حافظًا، قال الله جلّ ذكره: وعزّتي لأردّن عليك كليهما بعدما توكّلت عليّ، وقال لهم يعقوب لما أرادوا الخروج هذا: {وَقَالَ يا بني لاَ تَدْخُلُواْ} مصر: {مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} وذلك أنّه خاف عليهم العين لأنّهم كانوا ذوي جمال وهيئة وصور حسان وقامات ممتدّة، وكانوا ولد رجل واحد، وأمرهم أن يفترقوا في دخولها ثمّ، قال: {وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} علم عليه السلام أنّ المقدور كائن، وأنّ الحذر لا ينفع من القدر، وما أغني عنكم من الله من شيء: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} وإلى الله فليفوّض أمورهم المفوّضون.
{وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} وكان لمصر أربعة أبواب فدخلوها من أبوابها كلّها،: {مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} صدّق الله تعالى يعقوب فيما قال: {إِلاَّ حَاجَةً} حزازة وهمّة في نفس يعقوب: {قَضَاهَا} أشفق عليهم إشفاق الآباء على أبنائهم: {وَإِنَّهُ} يعقوب: {لَذُو عِلْمٍ لِّمَا}: أي مما: {عَلَّمْنَاهُ} يعني لتعليمنا إيّاه، قاله قتادة، وروى سفيان عن (ابن) أبي عروة قال: إنّه العامل بما علم، قال سفيان: من لا يعمل لا يكون عالمًا، وقيل: إنّه لذو حظّ لِما علّمناه.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ما يعلم يعقوب، أي لا يعرفون مرتبته في العلم.
{وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ} قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به، قد جئناك به فقال لهم: أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي، ثمّ أنزلهم فأكرم منزلهم ثمّ أضافهم وأجلس كلّ اثنين منهم على مائدة فبقى بنيامين وحيدًا، فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيًّا لأجلسني معه، فقال لهم يوسف عليه السلام: لقد بقي هذا أخوكم وحيدًا، فأجلسه على مائدته فجعل يُؤاكِله.
فلمّا كان الليل أمرَ لهم بمثل أي فرش، فقال: لينم كلّ أخوين منكم على مثال، فلمّا بقي بنيامين وحده، قال يوسف عليه السلام: هذا ينام معي على فراشي فبات معه فجعل يوسف يضمّه إليه ويشمّ خدّه حتى أصبح فجعل روبيل يقول: ما رأينا مثل هذا، فلمّا أصبح قال لهم: إنّي أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثان فسأضمّه إليّ فيكون منزله معي، ثمّ أنزلهم معه، وأجرى عليهم الطعام والشراب وأنزل أخاه لأمّه معه فذلك، قوله تعالى: {آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ} فلمّا خلا به قال له: ما اسمك؟ قال: بنيامين.
قال ابن من يا بنيامين؟ قال: ابن المثكل، وذلك أنّه لما ولد هلكت أُمّه، قال: وما اسمها؟ قال: راحيل بنت لاوي بن ناحور، قال: فهل لك بنون؟ قال: نعم، عشر بنين وقد اشتققتُ أسماءهم من اسم أخ لي من أُمّي هلك، قال: لقد اضطرّك إلى ذاك حزن شديد، قال: فما سمّيتهم؟ قال: بالعا وأحيرا وأثكل وأحيا وكنر ونعمان وادر وأرس وحيتم وميثم، قال فما هذه؟ قال: إما بالعًا فإنّ أخي قد ابتلعته الأرض، وأما أخيرا فإنّه بكر أبي لأُمّي، وأمّا أثكل فإنّه كان أخي لأبي وأُمي وسنّي، وأما كثير فإنّه خير حبيب كان، وأمّا نعمان فانه ناعمٌ بين أبويه وأمّا أدّر فإنّه كان بمنزلة الورد في الحُسن، قال: وأما أرس فإنّه كان بمنزلة الرأس من الجسد، وأما حيتم فأعلمني أنّه حيّ، وأمّا ميثم فلو رأيته قرّت عيني.
فقال يوسف: أتُحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ فقال بنيامين: ومن يجد أخًا مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه و: {قَالَ} له: {إني أَنَاْ أَخُوكَ} يوسف: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} فلا تحزن: {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لشيء فعلوه بنا فيما مضى؛ فإنّ الله قد أحسن إلينا ولا تُعلمهم شيئًا ممّا علمت.
وقال عبدالصمد بن معقل: سمعت وهب بن منبه وسئل عن قول يوسف لأخيه: {إني أَنَاْ أَخُوكَ}، فقيل له كيف آخاه حين أخذ بالصواع وقد كان أخبره أنّه أخوه، وأنتم تزعمون أنّه لم يزل متنكّرًا لهم يكابرهم حتى رجعوا؟ فقال: إنّه لم يعترف له بالنسبة ولكنّه قال: أنا أخوك مكان أخيك الهالك، ومثله قال الشعبي، قال: لم يقل له: أنا يوسف، ولكن أراد أن يُطيّب نفسه.
ومجاز الآية أي: أنا أخوك بدل أخيك المفقود فلا تبتئس بما كانوا يعملون فلا تشتكِ ولا تحزن لشيء سلف من أخوتك إليك في نفسك وفي أخيك من أُمّك، وما كانوا يفعلون قبل اليوم بك، ثمّ أوفى يوسف لإخوته الكيل وحمل لهم بعيرًا، وحمل لبنيامين بعيرًا باسمه كما حَمل لهم، ثمّ أمر بسقاية الملك فجعل في رحل بنيامين، قال السدّي: جعل السقاية في رحل أخيه، والأخ لا يشعر.
قال كعب: لما قال له: إني أنا أخوك قال بنيامين: فأنا لا أفارقك، قال يوسف عليه السلام: قد علمتُ عنهم والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمه، فلا يمكنني هذا إلاّ أن أُشهرك بأمر وأنسبك إلى ما لا يجمل بك، قال: لا أُبالي فافعل ما بدا لك فإنّي لا أُفارقك.
قال: فإنّي أدسُّ صاعي هذا في رحلك ثمّ أُنادي عليك بالسرقة لجهازي ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك، قال: فافعل، فذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أي لما قضى لهم حاجتهم،: {جَعَلَ السقاية}: وهي المشربة التي كان يشرب بها الملك، قال ابن زيد: وكان كأسًا من ذهب فيما يذكرون، وقال ابن إسحاق: هو شيء من فضّة، عكرمة: مشربة من فضّة مُرصّعة بالجواهر، جعلها يوسف مكيلا لئلاّ يكال بغيرها وكان يشرب بها، سعيد بن جُبير: هو المقياس الذي يلتقي طرفاه وكان يشرب بها الأعاجم وكان للعباس منها واحدة في الجاهلية، والسقاية والصواع واحد،: {فِي رَحْلِ أَخِيهِ} في متاع بنيامين، ثمّ ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا ومضوا ثمّ أمر بهم فأُدركوا وحُبسوا.
{ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نادى مناد،: {أَيَّتُهَا العير} هي القافلة التي فيها الأحمال، قال الفرّاء: لا يُقال عِير إلاّ لأصحاب الإبل، وقال مجاهد كانت العِير حميرًا.
{إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} قفوا، فوقفوا، فلمّا انتهى إليهم الرسول قال لهم: ألم نكرم ضيافتكم ونُحسن منزلكم ونُوفِكم كيلكم ونفعل بكم ما لم نفعله بغيركم؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قال: سقاية الملك، فقال: إنّه لا يُتَّهم عليها غيركم، فذلك قوله تعالى: {قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ} عطفوا على المؤذّن وأصحابه: ماذا تفقدون؟ ما الذي ضلّ منكم؟ فالفقدان ضدّ الوجود، والمفقد: الطلب.
{قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك} واختلف القُرّاء في قراءة ذلك، فروى قثم عن داود بن أبي هند عن مولى بني هاشم عن أبي هُريرة أنّه قرأ {صاع الملك} وقرأ أبو رجاء {صوع} وقرأ يحيى بن معمر {صوغ} بالغين، فإنّه وجهنا إلى مصر، صاغ يصوغ صوغًا، وجمع الصواع صيعًا، وجمع صاع أصواع.
{وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} من الطعام: {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} كفيل يقوله المؤذّن، وأصل الزعيم: القائم بأمر القوم، ويُقال للرئيس زعيم، يُقال: زعم، زعامة وزعامًا، قالت ليلى الأخيلية:
حتى إذا رفع اللواء رأيتُه ** تحت اللواء على الخميس زعيمًا

و{قَالُواْ} يعني اخوة يوسف،: {تالله} أي والله، أصلها الواو قلبت تاء كما فعل القراء في التقوى والتكلان والتراب والتخمة، وأصلها الواو، والواو في هذه الحروف كلّها حرف من الأسماء، وليست كذلك في تالله لأنّها إنّما هي واو القسم وإنّما جعلت بالكثرة ما جرى على ألسن العرب، هم زعموا أنّ الواو من نفس الحرف فقلبوها تاء، ووضعت في هذه الكلمة الواحدة دون غيرها من أسماء الله تعالى.
{لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} فإن قيل: من أين علموا ذلك؟ الجواب عنه: قال الكلبي قال: إن فتى يوسف وهو المؤذّن قال لهم: إنّ الملك ائتمنني بالصاع وأخاف عقوبة الملك، فلي اليوم عنده مقولة حسنة، فإن لم أجده تخوّفت أن تسقط منزلتي وأفتضح في مصر، قالوا: لقد علمتم ما جئنا لنفس في الأرض إنا منذ قطعنا هذا الطريق لم ننزل عند أحد ولا أفسدنا شيئًا وسلوا عنا من مررنا به، هل ضررنا أحدًا؟ أو هل أفسدنا شيئًا؟ وإنّا قد رددنا الدراهم كما وجدنا في رحلنا، فلو كنّا سارقين ما رددناها.
قال فتى يوسف: إنّه صواع الملك الأكبر الذي يكتال فيه، وقال بعضهم: إنّما قالوا ذلك لأنّهم كانوا معروفين أنّهم لا يتناولون ما ليس لهم، وقيل: إنّهم كانوا حين دخلوا مصر كمّوا أفواه دوابهم لكي لا تتناول من حروث الناس.
فإن قيل: كيف استجاز يوسف تسميتهم سارقين؟
قيل: فيه جوابان: أحدهما أنّه أضمر في نفسه أنّهم سرقوه من أبيه، والآخر أنّه من قول المنادي لا من أمر يوسف والله أعلم.
{قَالُواْ} يعني المنادي وأصحابه،: {فَمَا جَزَاؤُهُ} ثوابه قال الأخفش: إن شئت رددت الكناية إلى السارقين، وإن شئت رددتها إلى السَّرَق: {إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} في قولكم: {ما كنّا سارقين}.
قالوا: {جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} أن يسلِّم سرقته إلى المسروق منه، ويسترقّ سنة، وكان ذلك سنّة آل يعقوب في حكم السارق: {كذلك نَجْزِي الظالمين} الفاعلين ما ليس لهم فعله من أخذ مال غيره سرقًا، وأما وجه الكلام فقال الفرّاء من في معنى جزاؤه، ومن معناها الرفع بالهاء التي جاءت وجواب الجزاء الفاء في قوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} ويكون قوله: {جَزَاؤُهُ} الثانية مرتفع بالمعنى المجمل في الجزاء وجوابه، ومثله في الكلام أن يقول: ماذا لي عندك؟ فيقول: لك عندي أن بشّرتني فلك ألف درهم كأنّه قال: لك عندي هذا، وإن شئت الجزاء مرفوعًا بمن خاصّة وصلتها كأنّك قلت: جزاؤه الموجود في رحله، كأنّك قلت: ثوابه أن يسترق في المستأنف أيضًا فقال: فهو جزاؤه، وتلخيص هذه الأقاويل: جزاؤه جزاء الموجود في رحله، أو جزاؤه الموجود في رحله.
تمّ الكلام.
وقال مبتدئًا فهو جزاؤه فقال الرسول عند ذلك: إنّه لابدّ من تفتيش أمتعتكم ولستم سارقين حتى أفتّشها فانصرف بهم إلى يوسف،: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} لإزالة التهمة: {قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} وكان فتّش أمتعتهم واحدًا واحدًا، قال قتادة: ذكر لنا أنّه كان لا يفتح متاعًا ولا ينظر في وعاء إلاّ استغفر الله تأثّمًا ممّا قذفهم به، حتى إذا لم يبق إلاّ الغلام، قال: ما أظنّ هذا أخذ شيئًا، فقال أخوته: والله لا نتحرّك حتى تنظر في رحله، فإنّه أطيب من نفسك وأنفسنا، فلمّا فتحوا متاعه استخرجوه منه فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ استخرجها مِن وِعَاءِ أَخِيهِ} وإنّما أتت الكناية في قوله استخرجها والصواع مذكر، وقد قال الله تعالى: {وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} لأنّ ردّه إلى السقاية كقوله: {الذين يَرِثُونَ الفردوس} [المؤمنون: 11]، ثمّ قال: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11] ردّها إلى الجنّة وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين} [النساء: 8]، ثمّ قال: {فارزقوهم مِّنْهُ} [النساء: 8]، أي من الميراث.
وقيل: ردّ الكناية إلى السرقة.
وقيل: إنّما أنّثها لأنّ الصواع يُذكر ويُؤنّث فمن أنّثه قال: ثلاث أصوع مثل أدود ومن ذكّره قال: ثلاثة أصواع مثل ثلاثة أثواب.
{كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} يعني كما فعلوا في الابتداء بيوسف فعلنا بهم لأنّ الله تعالى حكى عن يعقوب أنّه قال ليوسف: {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا} فالكيد جزاء الكيد، قال ابن عباس: كذلك كِدنا أي صنعنا، ربيع: ألهمنا، ابن الأنباري: أردنا.
ومعنى الآية: كذلك صنعنا ليوسف حتى ضمّ أخاه إلى نفسه وفصل بينه وبين إخوته بعلّة كادها الله له فاعتلّ بها يوسف،: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} إليه ويضمّه إلى نفسه: {فِي دِينِ الملك} في حكمه وقضائه، قاله قتادة.
وقال ابن عباس: في سلطان الملك، وأصل الدين: الطاعة، وكان حكم الملك في السارق أن يسترقّ ويُغرّم ضعف ما سرق للمسروق منه، وقال الضحّاك: كان الملك إذا أُتي بسارق كشف عن فرجتيه وسمل عينيه، إلاّ أن يشاء الله، يعني أنّ يوسف لم يكن ليتمكّن من أخذ أخيه بنيامين من أخوته وحبسه عنده في حكم الملك لولا ما كِدنا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك وهو ما أجراه على ألسنة إخوته أنّ جزاء السارق الاسترقاق فأقرّوا به وأبدوا من تسليم الأخ إليه، وكان ذلك مُراد يوسف عليه السلام.
{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} بالحكم كما رفعنا يوسف على إخوته.
{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال ابن عباس: يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كلّ عالم، قال قتادة والحسن: والله ما من عالم على ظهر الأرض إلاّ فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله الذي علّمه ومنه بدأ وإليه يعود، وفي قراءة عبدالله: {وفوق كلّ عالم عليم.}
وعن محمّد بن كعب القرضي أنّ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قضى بقضية فقال رجل من ناحية المسجد: يا أمير المؤمنين ليس القضاء كما قضيت، قال فكيف هو؟ قال: كذا وكذا قال: صدقت وأخطأت، وفوق كلّ ذي علم عليم.
قالوا: فلمّا أخرج الصواع من رحل بنيامين نكَّس إخوته رؤوسهم من الحياء وأقبلوا على بنيامين وقالوا: يا بنيامين أي شيء الذي صنعت، فضحتنا وسوّدت وجوهنا، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، متى أخذت الصواع؟.
فقال بنيامين: بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه بالبريّة، وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة يوسف: آية 54]

{وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}
يقال استخلصه واستخصه، إذا جعله خالصًا لنفسه وخاصًا به {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} وشاهد منه ما لم يحتسب {قالَ} أيها الصديق {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ} ذو مكانة ومنزلة {أَمِينٌ} مؤتمن على كل شيء. روى أنّ الرسول جاءه فقال: أحب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله: اللهم أعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعمّ عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات.
وكتب على باب السجن: هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن، ولبس ثيابا جددًا فلما دخل على الملك قال: اللهمّ إنى أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية، فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لسانًا، فكلمه بها فأجابه بجميعها، فتعجب منه وقال: أيها الصدّيق، إنى أحب أن أسمع رؤياي منك. فقال: رأيت بقرات فوصف لونهنّ وأحوالهنّ ومكان خروجهنّ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفا، وقال له: من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء، فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك.